في نهاية عام 1247م، ضرب السوط المغولي المشرق الإسلامي، وأطاحت تلك الضربة بالعديد من وثائق التاريخ الهامة. هولاكو السائر إلى بغداد في مئات الآلاف من فرسان السهوب، هدم في طريقه مأوى الحشاشين في «آلموت» وأباد مكتبتهم، والتي بعدها أصبح من المتعذر على الناظر في التاريخ أن يصل إلى معرفة معمقة بتلك الفرقة ونشاطاتها.
ولكن بقيت هوامش تاريخية، تتحدث عنهم، دوَّنها أعداؤهم، وأماطت اللثام عن شخصية «الطائر بن لا أحد» بطل لعبة Assassin’s Creed ورفاقه.
الأصول والبدايات
في كتابه «الفَرق بين الفِرق»، يتحدث «أبو منصور البغدادي» عن «الشيعة الإسماعيلية»، والتي تُنسب إليها الباطنية والإسماعيلية النزارية، فيُعرِّفهم بوصفهم الذين وقف إيمانهم بالأئمة عند السبعة الأُوَل، وآخرهم الإمام إسماعيل الذي يُنسبون إليه، ويقوم مبدؤهم الديني على تأويلهم الآيات والأحاديث وكل ما ورد به الشرع، تأويل غير الظاهر منه، ولذلك عُرفوا بالباطنية.
عرفوا الاعتدال في بدايتهم، وقسَّموا أنفسهم إلى طوائف ولكل طائفة خصائصها، فطائفة للفدائيين وهم المعنيون بكلامنا، وطائفة للدعاة في العامة، وكان الترقي في الجماعة لا يتم إلا عن طريق الإخضاع للكثير من الاختبارات القاسية، ثم حلف الأيمان المُغلَّظ على الوفاء بتعاليمهم، وهو يمين طويل أورده أبو منصور كتابه في أكثر من صفحة، ومن أول رؤساء الطائفة، كان عبد الله بن ميمون القداح، والذي عُرف بكثرة أتباعه، والذين وضعوا فيما بينهم الأسس والمبادئ لجمعيتهم السرية، والتي تقوم على أمرين جوهريين:
أولهما: استغلال الاستياء من الدولة العباسية على أي نحو كان، وأن تُوحَّد الصفوف لإزالة مُلك تلك الدولة، وإحلال فرقتهم محلها، ومخاطبة كل إنسان باللغة التي تناسبه والغرض الذي يناسبه.
ثانيهما: قيام الدعوة على أساس تراتبي، أي أن التعاليم وفقاً لاستعدادات كل فئة من الناس، فللعامة تعاليمهم، كما أن للخاصة تعاليمهم، ولخاصة الخاصة تعاليمهم، ولا يعلم الأدنى من تعليم الأعالي شيئاً، ويستئثر الرؤساء والزعماء القلة بأسرار الجماعة.
من البداية أثارت الجماعة غضب الأمراء السنة في مختلف دويلات الخلافة العباسية، وما نجده من صور للقمع في أدبيات تلك الفترة، يعطينا تصوراً عن مدى خطورة تلك الجماعة، فيذكر «عماد الدين الهمذاني» أن أحد أمراء إقليم خراسان قتل -في مدة قليلة- أكثر من 100 ألف من الباطنية، وبنى من رؤوسهم بمدينة «الري» مناراً، أذَّن عليه المؤذنون، وإن كنَّا نرى فيما أورده الهمذاني مبالغة كعادة أهل عصره في الكتابة والتدوين، ولكنها تعبر عن حقيقة القوة التي قُمعت بها تلك الحركة في مهدها، ويشير أبو منصور البغدادي إلى أن سلطان «غزنة» محمود بن سبكتكين قتل في مدينة مولتان من أرض الهند ألوفاً، وقطع أيدي 1000 منهم، وبادهم من تلك الناحية تماماً.
قلعة «آلموت»
اسم الحصن الأسطوري لطائفة الحشاشين، وهي قلعة على جبل شاهق بخراسان، وآلموت في لغة «الديلم» تعني عش النسر، الفرقة التي نشأت في العام 1090م على يد عاشق ومحب للشعر والفلسفة اسمه «حسن الصباح»، حين وُلد عام 1048م كان الشيعة هم من يسيطرون على الدولة العباسية، فالدولة البويهية تسيطر على آسيا المسلمة، والفاطميون يسيطرون على مصر والشام، وعندما أصبح حسن صبياً، انقلبت الأمور رأساً على عقب، بسيطرة السلجوقيين السنة على مقاليد الحكم في الدولة العباسية.
فتَّحت هجرة «حسن الصباح» إلى مصر الفاطمية عينه على وضع آخر، ففي مصر وجد أن الخليفة الفاطمي دُمية يُحرِّكها الوزراء كما يريدون. في تلك الأوقات تشكَّلت حركة ثورية على يد «نزار ابن الخليفة البكر»، وهي التي تُنسب إليها «الإسماعيلية النزارية» وجناحها المسلح «الحشاشون»، تلك الحركة نُظمت بين نزار وحسن، وكان الغرض منها إرسال حسن إلى آسيا المسلمة، حيث يقوم بثورة أخرى على السلجوقيين وتعود سيطرة الشيعة على مقاليد حكم الدولة العباسية من جديد، ونجح حسن في السيطرة على قلعة «آلموت» ليؤسس أقوى تنظيم ديني سياسي لن يكون لمثل فاعليته شبيه في التاريخ الإسلامي وربما الإنساني.
كان حسن يختار أعضاء فرقته بعناية، فمن الشباب الأقوى جسداً، والأشد جلداً، والأمضى عزماً، والأكثر حماسةً. علَّمهم العقيدة في نظام تراتبي من المبتدئ حتى المُعلم الأكبر، بجوار تدريبهم العسكري، وجعل من «الاغتيالات» نهجاً للعمل الثوري للتنظيم، واليوم المُفضَّل لإتمام ذلك كان يوم الجمعة بعد الصلاة على رؤوس الأشهاد، فكان الفدائيون يتنكرون في زي التجار والمواطنين، ويتماهون تماهياً كاملاً مع عادات ضحاياهم، حتى تتسنى لهم الفرصة لإتمام العملية، والعبرة من أن يشاهدها الجمع، لكي تكون عظة وإنذاراً لكل عدو لهم. وعُرف الحشاشون بالفدائيين، نظراً لأن القائم بعميلة القتل لا يحاول الهروب، ولكنه يستسلم لمصيره بالموت بعد أن يُتِم عمليته.
ويُرجِع الكثيرون تسمية «الحشاشين» إلى أن حسن الصباح كان يستعين بالحشيش لجعل الفدائي في أسمى حالة روحانية، استعداداً للموت والشهادة.
«خنجر في ظهورنا»
استخدم المؤرخون هذا الوصف تجاه الحشاشين، ذلك لأن عمليات الاغتيال التي نفذتها تلك الطائفة، استهدفت شخصيات مؤثرة جداً في لحظات حرجة في التاريخ الإسلامي، خصوصاً في مرحلة الحروب الصليبية، فبينما كان المسلمون في مواجهة «العدو الإفرنجي»، كانوا يُطعنون من الحشاشين في ظهورهم.
وقد كانت عمليتهم الأولى في 1092م، إنذاراً بتلك القوة القادمة في الساحة السياسية، فـ «نظام الملك» الوزير السلجوقي الذي قضى على الدويلات الشيعية العباسية، وأعاد قوة السنة من جديد، ووحَّد السلاجقة على مدى 30 عاماً، كان هو الشخصية الأولى على قائمة حسن الصباح، ومن بعد موته لم يتحد البيت السلجوقي أبداً مرة أخرى، بل تقاتل من أجل سدة الحكم، وتشرذم، وهو ما أدى –في نهاية المطاف- لانتصار الصلبيين، والمكوث في أراضي العرب لمائتي عام فيما بعد.
لقد كان قتل «نظام» هو هدية حسن لرئيسه «نزار» في القاهرة، ولكن الأخير قُتل على يد الوزير «الأفضل» في 1094م، وصار حسن في «آلموت» وحيداً، ليُغيِّر من استراتيجية تنظيمه: لن تكون الجماعة في خدمة ثورة نزار من الآن، ولكن لتكون في خدمته هو، عليه أن يبحث عن إقطاعيته الخاصة ليحكمها، وليستمر في اغتيال الشخصيات الهامة التي تمثل الحكم العباسي.
كانت حلب تحت حكم «رضوان» أحد السلاجقة الضعفاء، وإلى هناك أرسل حسن شخصاً يُدعى «الطبيب المنجم» ليُبشِّر بالحركة، وسلك الطبيب الطريق حتى بلاط الملك، وأصبح رضوان تحت سيطرته الكاملة، وأصبحت للحشاشين الكلمة في البلاط الحلبي.
كرههم الحلبيين بشدة، وستتجلى تلك الكراهية في أبهى صورها في شخصية القاضي الثائر «أبي الفضل ابن الخشاب». ففي تلك الفترة كانت الإمارات المسلمة تتساقط واحدة تلو الأخرى تحت سيوف الصليبيين، وإن جاز لنا استخدام لغة العصر، كان الحشاشون «مُطبِّعين»، وأبدوا استعدادهم للتعايش مع الغزاة، وتاريخ تلك الحقبة يكشف عن ذلك التطبيع في أكثر من صورة، ولكن الأمانة التاريخية تجعلنا نشير إلى أن الحشاشين لم يكونوا وحدهم فقط «المُطبِّعين»!
كان القاضي الشيعي ابن الخشاب، يرى الحشاشين خونة للبيت الفاطمي وللخلافة الشيعية، وكان الحشاشون لا يرون ضيراً في التعاطف مع الصليبيين، طالما أنهم يلحقون الهزيمة تلو الأخرى بالإمارات السنية، وبالخلافة الفاطمية بقيادة الأفضل في مصر، بمبدأ أن عدو عدوي صديقي.
النموذج الحلبي
كان ابن الخشاب ثائراً في وجه المتخاذل رضوان، أراد حماية حلب من الإفرنج، وبعد أن أُسقط رضوان في 1113م، تتبع ابن الخشاب الباطنيين في المدينة، وأمر فيهم بالذبح، أو أن يُلقوا من فوق أسوار المدينة، وراح ضحية لتلك المذبحة زهاء مائتين.
وحين ضُرب الحصار الصليبي على المدينة في 1125م كان ابن الخشاب يقاوم ببسالة، وجاءه المدد من القائد التركي «أبي سعيد آق سنقر البرسقي» والي الموصل، الذي قضى على الحصار الصليبي، وأسس ابن الخشاب بحذاقته محور «حلب-الموصل»، والذي سيكون نقطة فارقة في تاريخ مقاومة الصليبيين، ولكن قبل أن يشهد انبعاث المسلمين في وجه المد الصليبي من جديد، سيموت ابن الخشاب في 1125م على يد رجل يرتدي زي متصوف، بعدما أنهى صلاة الظهر لتوه.
خنجر في صدر ابن الخشاب سيحمل إنذاراً آخر لقوة «الحشاشين» الصاعدة، فها هم نجحوا في التخلص من ألد أعدائهم، ابن الخشاب الذي أعمل فيهم السيف وأراق دماء مريديهم دون أن يندم للحظة.
لم يعلم ابن الخشاب أن حركة حسن الصباح لا زالت في طور النشأة، فقد أرسل حسن «بهرام» إلى حلب في أيام «البرسقي»، بعد أن تولى حكمها، وكان «بهرام» من الدعاة الماهرين، واستقطب العديدين لمذهبه، والغرض من دعوته تغيير استراتيجي: من خطة الاغتيالات إلى خطة الاستقطاب، وذلك حتى تعود قوة الفرقة من جديد في المدينة.
أنشأ «بهرام» شبكة سرية في سنوات قليلة، وخرج قوياً من جديد، وفي تلك المرة كان «البرسقي» هو التالي على القائمة، وقد كان مُتيقظاً لهم ومتحفظاً منهم وكان يرتدي درعاً حديدية منيعة، ولكن ذات مرة حينما كان يصلي الجمعة، كان بجواره جماعة في زي متصوفين، ولم يكونوا سوى الحشاشين، وما أن شرع في الصلاة قفزوا عليه وأعملوا فيه سكاكينهم والتي لم تجدِ نفعاً، فصرخ أحدهم: «ويلكم اطلبوا رأسه وأعلاه»، فقصدوا حلقه وأثخنوه، ومات «البرسقي» شهيداً مُصلياً.
لقد كان مقتل «البرسقي» في 1126م، في شدة الخطر الصليبي، تأكيداً للمسلمين على أن العدو في الداخل، فبينما كانوا يحتاجون للقادة الأقوياء لجمعهم، كان الحشاشون يقتلونهم، فمن بعد «البرسقي»، قُتل ابنه، وقبل ابن الخشاب، قُتل شخص أعده الكثيرون أهم مرجعية دينية في عصره، وهو الإمام «أبو سعد الهروي»، أول من أيقظ المسلمين من نومتهم ونبههم للخطر الإفرنجي القادم في 1099م، فبعد صلاة الجمعة في عام 1124م طعنه الباطنيون بالخناجر حتى صفوا جسده من الدماء، وفي تلك المرة لم يُقتل قاتلوه، لأن الناس قد بلغوا من الرعب حداً ماتت معه كل مقاومة للحشاشين، الذين كانوا يقتلون كل من يجرؤ عليهم. [6]
مات شيخ الجبل «حسن الصباح» في آلموت في العام 1124م، وحركته في أوج قوتها. سيزداد تطبيعهم مع الصليبيين، وسيسلمونهم قلعة «بانياس»، ويقيمون في بيت المقدس تحت حماية «بغدوين الثاني».
وستكون الحركة في مجدها تحت قيادة «سنان شيخ الجبل»، وسيعاصرون صلاح الدين، وسيلف الغموض تلك الفترة من التاريخ: هل استعان بهم صلاح الدين؟ لماذا خشي صلاح الدين القضاء عليهم بعد محاصرة آلموت؟ هل تركوا له على سريره كعكعة مسمومة ورُقعة قرأ فيها: «إنك تحت رحمتنا»؟
هذا ما سنعود إليه لاحقاً إن قُدر لنا ذلك.